بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد.
فإن الإستشراق كان ومايزال يشكل الجذور الحقيقيه التى تقدم المدد للتنصير والإستعمار، والعاله الثقافيه ويغذى عملية الصراع الفكرى فالإستشراق هو المنجم، والمصنع الفكرى الذى يمد المنصّرين والمستعمرين ، وأدوات الغزو الفكرى، بالمواد التى يسوّقونها فى العلم الإسلامى، لتحطيم العقيده، وتخريب عالم أفكاره، والقضاء على شخصيتة وإذا به هويته.
لقد أكتفينا نحن المسلمون "المحدثون" بمواقف الرفض والإدانه للإستشراق والتنصير، اكتفينا بالانتصار، والإنحياز العاطفى للإسلام، وخطبنا كثيرا وانفعلنا أكثر، ولم تعل إلا أصواتنا،ولانزال نحذر من الغارة على العالم الإسلامى، القادمه من الشرق والغرب ومن المخططات الصهيونيه الماكره والصليبيه الحاقده.
لقد أصبح ذلك يشكل عندنا مناخاً ثقافيا، وإرثاً فكريا وطريقا أمثل للشهرة دون أن تكون عندنا القدرة على إنضاج بحث ذى قيمة فى الموضوع، أو إيجاد خطة أو وسيلة مدروسة فى المواجهة، أو محاولة جادة لتقديم البديل الصحيح للسيل الفكرى، والثقافى، والإعلامى، والأكاديمى القادم من هناك، إلا ما رحم الله من جهود فردية تمثل إضاءات وومضات على الطريق، كما أنها تمثل فى الوقت ذاته إدانات لهذا الفراغ والعجز، والتخاذل والفكرى.
وكان من ثمرة ذلك :-
أننا سوّقنا لأفكار المستشرقين عن حسن نيه، وعملقنا أشخاصهم دون حسابات دقيقه للأثار السلبيه على أكثر من صعيد، لما يترتب على ذلك، لأنه يكفى أن يلقى إلينا ببعض التشكيكات ، ليستثيرنا ويحول جهودنا وطاقاتنا إلى تلك المواقع الدفاعيه، لينفرد هو بالتخطيط لتحقيق أهدافه، وكلما حاولنا أن ننتبه، ينتقل بنا من مشكلة - شبهة إلى أخرى فنبقى دائما فى مجال رد الفعل ونعجز دائما عن الحل، ذلك أن رد الفعل يملكنا بينما نحن- فى الحقيقة- نملك المواجهة.
ولنا في منهاج القرآن الكريم خير دليل.
فلو أن القرآن الكريم استجاب لكل شبه الكافرين وشكوكهم، لكانت آياته جميعاً تمثل رد الفعل، والإستجابة لطلبات الكافرين، ولما تفرغ لبناء أمة وإنشاء حضارة، فواجه وأسس وهدم وبني.
إن الذي نلمحه من منهاح القرآن الكريم في ذلك، أنه طرح من الحقائق والأدلة ما يكفي لمن يريد الإستدلال على بطلان شبهه، لأن المشكلة لم تعد في الدليل، وإنما بعناد المستدل الذي لابد من تجاوزه إلى مرحلة البناء المرصوص بحيث لا يوجد بعد ذلك مداخل وفراغات يملؤها الأعداء، لقد واجه القرآن الكريم الباطل بكل جوانبه وتجاوزه إلى بناء أمة مع إيجاد البديل والدعوتين والإستمرار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد نجحت العقلية الأوربية الإستشراقية إلى فرض شكليتها وآليتها على التحقيق والنشر، والسيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، وعن طريق الإستشراق والمستشرقين، بادرت إلى التحقيق والطبع والنشر لمجموعة من أكبر وأهم المصادر التراثية، وعلى الرغم أن بعض هذه الدراسات كانت تقترب إلى حدما – من صفة النزاهة إلا أنها في النهاية وبكل المقاييس تبقي مظهراً من مظاهر الإحتواء الثقافي.
وحتي نكون في مستوى الحوار الفكرى، والتبادل المعرفي، ونوقف فعلاً الغزو الفكري، والإغراق الإستشراقي – لابد لنا – بدل البكاء على الأطلال والإكتفاء بجرعات الفخر والإعتزاز بالماضي، أن نكون في الوقت نفسه – قادرين على امتلاك الشوكة الفكرية، أن نكون قادرين على الإنتاج الفعلي لمواد ثقافية تمثل ثقافتنا، وتأتي استجابة لها، وتقوي الناس بها، وبذلك وحده نكون في مستوى الحوار والتبادل المعرفي.
إن المواجهة لا تكون بإدانة الآخرين، والنظر إلى الخارج دائماً، وإنما نبدأ حقيقة من النظر إلى الداخل أولاً لملأ الفراغ، بعمل بنائي مستمر، وتحصين الذات وتسليحها بالمقاييس الثقافية السليمة، وإنتاج مناهج، وآليات للفهم تأتي وليداً شرعياً لثقافتنا.
ومن هنا جاءت هذه الدراسة – وإن كانت موجزة ومركزة – إلا أنها فتحت الباب لنغير بها – وما على مثلائها، من رد الفعل السلبي الذي نعشقه إلى الفعل الإيجابي الذي نبتغيه ونريده.
والله من وراء القصد، د/ محمد سيد أحمد عامر
القاهرة المحروسة، المرج المعمورة.
يوم الجمعة يوم الإسراء والمعراج 27 رجب 1420هـ 5/11/1999م.