خيانة المستشرقين للمنهج العلمي 7
عجز المستشرقون عن تمثل الثقافة واللغة :
إذا كان من شروط المنهج الجوهرية : البراءة من الأهواء، فإن من شروطه الأساسية :
* إدارك اللغة والإحاطة بأسرارها : - أسرار اللغة التي يبحث الباحث في أدابها وعلومها وفنونها.
* إدراك الثقافة والإحاطة بسرها، ثقافة الأمة التي يريد أن يبحث في تاريخها، وعقائدها، وعمرانها، وحضارتها، ودينها.
وذلك – ضروري ولازم – للمستشرق وغير المستشرق (هذه الشروط لا يختلف في شأنها أحد قط في كل ثقافة، وكل أمة، فإذا كان لا يعد كاتباً أو باحثاَ أو عالماَ من أبناء اللغة ذاتها، وأبناء الثقافة أنفسه، إلا من اجتمعت له هذه الشروط، فإذا تعدي منها لم يكن أهلا للنزول في الميدان "المنهج" فإذا فعل فهو متكلم لا أكثر ثم لا يلتفت إلى قوله، ولا يعتد به عند أهل البحث والعلم والكتابة).
والمستشرق فتي أعجمي ناشئ في لسان أمته وتعاليم بلاده، ومغروس في أدابها وثقافتها . . . ثم يغدوا طرفاً في علوم العربية و أدابها، يأخذها من أعجمي مثله، ثم يخرج على الناس بعد ذلك مستشرقاً يفتي في اللسان العربي وغيره.
غاية ما يمكن أن يحوزه "مستشرق" في عشرين أو ثلاثين سنة. . .
أن يكون عارفا – معرفة – ما – بهذه اللغة وأحسن أحواله عندئذ أن يكون بمنزلة طالب عربي، في الرابعة عشرة من عمره، بل هو أقل منه على الأرجح أي من طبقة العوام الذين لا يعتد بقولهم في ميدان "المنهج".
على أن اللغة نفسها هي وعاء "الثقافة" فهما متداخلتان، فمحال أن يكون محيطاً بثقافتها إحاطة تؤهله للتمكن من "اللغة" فمن أين يكون المستشرق مؤهلاً لنزول هذا الميدان؟؟
وإذا كان أمر اللغة شديداً لا يسمح بدخول المستشرق تحت هذا الشرط اللازم للقلة التى تنزل ميدان "المنهج" وما قبل المنهج.
فإن شروط الثقافة أشد وأعتي، لأن الثقافة سر من الأسرار الملثمة في كل أمة من الأمم، وفي كل جيل من البشر، وهي في أصلها الراسخ البعيد الغور، معارف كثيرة لا تحصي متنوعة أبلغ التنوع، لا يكاد يحاط بها، مطلوبة في كل مجتمع إنساني للإيمان بها أو لا عن طريق العقل والقلب ثم للعمل بها، حتي تذوب في بينان الإنسان وتجري منه مجري الدم، ولا يكاد يحس به، ثم للإنتماء إليها بعقله وقلبه، إنتماء يحفظه ويخفظها من التفكك والإنهيار.
وهذه القيود الثلاثة "الأيمان" و "العمل" و "الإنتماء" هي أعندة "الثقافة" وأركانها التي لا يكون لها وجود ظاهر محقق إلا بها، وإلا انتقض بينان "الثقافة" وصارت مجرد معلومات ومعارف وأقوال مطروحة في الطريق متفككة لا يجمع بينها جامع، ولا يقوم لها تماسك، ولا ترابط ولا تشابك.
وبديهي، بل هو فوق البديهي، أن شرط "الثقافة" ببنوده الثلاثة ممتنع على "المستشرقين" كل الإمتناع، بل هو أدخل في باب الإستحالة من اجتماع الماء والنار في إناء واحد وذلك لأن :-
"الثقافة" و "اللغة" متداخلة تداخلاً لا انفكاك له، ويترافدان ويتلاقحان بأسلوب خفي غامض كثير المداخل والمخارج والمسارب ويمتزجا امتزاجاً واحداً غير قابل للفصل، في كل جيل من البشر، وفي كل أمة من الأمم.
فأني للمستشرق أن يحوز ما لا يحوزه إلا من ولد في بحبوة اللغة وثقافتها منذ كان في المهد صبيا.
وهذا كلام واضح تمام الوضوح، لا نحتاج معه إلى دليل، ومع ذلك إليك مثالاً من كلام أحد المستشرقين ما يئكد ذلك :
كتب المستشرق الروسي "كراتشوفسكي" إلى شقيقته يقول لها "إن اللغة العربية تزداد صعوبة، كلما ازداد المء دراسة لها".
ومثالاً أخر يدلل عن عجز المستشرقين عن اكتشاف سر اللغة وإدراك كنه الثقافة لما وقعوا فيه من أوهام غليظة نتيجة هذا العجز المهين فمنها :-
* مثل ما وقع فيه المستشرق الألمانى "براجستراسر" في تحقيق كتاب مختصر في شواذ القراءات لإبن خالوبة، حيث صحف كلمة أبي عمرو ابن العلا "فقد تربع في لحنه" وجعلها "فقد تربع في الجنة" مع إن المقام مقام ذم.
وإن كانت هذه الأخطاء لا يترتب عليها كبير خلل في المعني، أو قضايا علمية، فهناك ما يترتب على فساد في المعني، وأحكام شرعية فمن ذلك ما قاله "م.دات" من تفسير "الغض" من البصر بأنه التواضع " وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا . . ." النور آية 31.
هكذا يرى أن هذه الآية تدعو إلى التواضع، ولسنا ندري من أين جاء بهذا المعني؟، مع أن السياق يشير إلى أن الأمر بغض النظر هنا هو عدم النظر إلى ما لا يحل نظره من الأجنبية ولا علاقة لهذا بالتواضع.